الاثنين، 18 يوليو 2011

التجديد في شؤون الدين والدنيا





      التجديد في شؤون الدين والدنيـا(1)



     لا بد بين يدي هذا الحديث أن أقول إن مقدمه لا يدعي تبحراً في الشريعة ، والشريعة بحر ، ولا تخصصاً في الفقه ، والفقه تخصص يستنفد أعماراً كاملة ، بل يتحدث باعتباره مسلماً عادياً أخذ من بعض العلوم بطرف ، وأحسب أن من حق المسلم الذي تعورف على تسميته مثقفاً أن يدلي برأي حول موضوع يهم المسلمين عامة ، موضوع يذهب البعض إلى أنه أهم ما يطرح على الساحة الفكرية الإسلامية ، وهو موضوع المراجعة والتجديد ، ولقد يجوز لي هنا أن استشهد برأي لابن تيميه يقول فيه :

    " العامي إذا أمكنه الاجتهاد في بعض المسائل جاز له الاجتهاد ، فإن الاجتهاد منصب يقبل التجزؤ والانقسام فالعبرة بالقدرة والعجز ، وقد يكون الرجل قادراً في بعض عاجزاً في بعض " .(2)



      لكم ، والحالة هذه ، أن تعتبروا حديث الليلة من قبيل اجتهاد العامي ، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان ومن نفسي كما قال أحد السلف الصالح .

      ألحظ في بداية الحديث أن التجديد في الفكر الديني يقابل ، عادة ، بمعارضة سياسية عنيفة ، لا يمكن لمذهب أن يدوم ويستقر بلا عصبية ، حسب التعبير الخلدوني ، وبلا سلطة سياسية حسب التعبير المعاصر ، هذه السلطة كثيراً ما ترى في التجديد الديني ما يهدد وضعها السياسي فتلجأ إلى رفضه دون تمحيص أو تفكير. وإلى جانب هذه العوامل السياسية تقف التحزبات المذهبية. عندما يستقر المذهب ، أي مذهب في أي دين ، تنشأ أجيال متتابعة من المقلدين الذين يعدون تقليد مشايخ المذهب هدف العلم وغايته . المفارقة التي ينساها المقلدون أن المذهب ، أي مذهب ، عندما نشأ كان حركة تجديدية مليئة بالحيوية والتمرد. كان ظهور مدرسة الرأي احتجاجاً ، من نوع أو آخر ، على مدرسة الحديث . ونشأ الاعتزال رداً عنيفاً على موجه الفكر الجبري الخانق . وعادت السلفية إلى المركز عندما ثار أحمد بن حنبل ، بطريقته الخاصة ، على الطغيان الفكري الذي مارسه الاعتزال في أوج صعوده ، وهلمّ جرّا.

       وإذا كان التجديد في الموروث الديني يقابل عادة بالرفض ، فمراجعة الموروث الحضاري بالموروث تقابل ــ بدورها ــ بردود فعل رافضة . كثيراً ما يخلط الموروث الحضاري بالموروث الديني على نحو يجعل من الصعب التفرقة بينهما ، وهنا تصبح مقاومة التجديد في نظر المعارضين واجباً دينياً لا يختلف عن الدفاع الدين نفسه . ولي هنا أن  أستذكر أن كاتباً اقترح مرة ، جاداً غير هازل ، أن يجلد كل من يكتب الشعر الحر عقوبة له وردعاً لأمثاله . وبعض المؤلفات التي تتعرض للأدب العربي الحديث تكتب لا بعقلية البحث  الموضوعي ولكن بعقلية الاتهام والمحاكمة . وهنالك سبب إنساني آخر يصب في معارضة التجديد . إن البشر ، عموماً وإجمالاً ، وفي كل زمان ومكان ، يستمرئون العيش الهادئ في ظل ما عرفوه من أنماط وأنساق وأعراف ، متخوفين من كل جديد ، والناس ، كما قيل بحق ، أعداء ما جهلوا ــ كانوا وما يزالون .

        على أنه كائنة ما كانت طبيعة القوى التي تسدّ الطريق أمام المراجعة فإن هناك اعتبارات جوهرية تجعل المراجعة أمراً لا مناص منه . إن العيش في مجتمع اليوم المفتوح ، مجتمع الحدود المفتوحة ، مجتمع العولمة الزاحفة والسيادة المتهاوية ، يختلف جذرياً ، في مشاكله وتحدياته ، عن العيش في مجتمع الأمس المغلق الذي كان يستطيع باسم السيادة أن يتحكم لا فيما يدخل الحدود والأسواق والمنازل فحسب بل في ما يدخل العقول . إن وتيرة التطور البشري تضع إنسان اليوم أمام معضلات لم يسبق لإنسان من قبل أن واجهها ، معضلات كالاستنساخ ، الحيواني منه والبشري ، وتربية الأعضاء كما تربى الدواجن ، والتحكم في خارطة الجينات على نحو يأتي بالأولاد حسب الطلب ، والقتل الرحيم ، لا يوجد في كتاب من كتب الفقه فصل عن ثقب الأوزون ، ولم يتعرض الجاحظ في أي من موسوعاته لأسلحة الدمار الشامل .


        وإذا كانت طبيعة الواقع تجعل من التجديد أمراً مفروضاً فطبيعة التقدم تجعل منه أمراً مطلوباً مرغوباً فيه . إن استقراء التاريخ يؤكد أن كل تقدم حققته البشرية كان نتيجة اختراع جديد لم يكن معروفاً من قبل . عندما تمكن الإنسان القديم من صنع الأدوات تغير مجرى التاريخ . وعندما استطاع أن يدجن الحيوانات وأن يزرع الحبوب تغير مرة ثانية ، وعندما أتقن القراءة والكتابة تغير مرة ثالثة ، وعندما أتقن القراءة والكتابة تغير مرة ثالثة ، وعندما توصل إلى كشف قوانين الطبيعة تغير مرة رابعة ، وعلى نحو درامي باهر . إن التفوق المادي الهائل الذي يميز الحضارة الغربية لم يكن ليتحقق لولا جاليلو ومحاكمته المثيرة ، ونيوتن وتفاحته الشهيرة ، وأديسون ومشكاته المنيرة ، ولم يكن ليصل بالإنسان إلى الفضاء الخارجي لولا أينشتاين ومعادلاته الرياضية . إن الحضارة الغربية اليوم ، في مجملها ، من صنع الثورة الصناعية ، وهي في جوهرها ، من صنع الثورة العلمية التي ناقشت ما لم يكن يناقش من مسلَّمات . يعزو المؤرخ الكبير توينبي إنجازات البشرية الكبرى إلى ما يسمّيه الأقلية الخلاقة . إذا صح قوله ، وأحسبه صحيحاً ، فمؤداه أن أي تطور لابّد أن يعبر بالابتكار والتجديد.


         قبل أن أتحدث عن التجديد في الفكر الديني لا بُدّ أن أوضح بجلاء ما بعده جلاء أن التجديد لا يعني التجديف والمراجعة لا تعني الهرطقة . إن التجديد الديني المنشود هو التجديد النابع من الدين نفسه ، المتمسك بثوابته ، المتقبل لأساسياته لا التسلل المشبوه الذي يتحدث عن التجديد وهو ينوي التبديد . ومن الضروري هنا أن أقول إن ما تقذف به المطابع هذه الأيام بين حين وآخر من كتب صفراء تهاجم محدثاً شهيرا ً أو إماما ً جليلا ً باسم الاجتهاد ليست من التجديد في شيء ، وإنما هي فقاعات مملوءة بحقد دفين لا على المحدّث أو الإمام فحسب بل على دين الله الحنيف كلّه . لابُدّ التحذير من كتب كهذه ، تغازل في عناوينها المثيرة الأهواء الطائفية وتنكشف بعد الفحص عن غثاء مسموم يمس ّ كل طائفة.


           كما أن التجديد المنشود لا يتحقق بإصدار فتوى هنا وهناك عن هذا الموضوع أو ذاك . الفتوى هي إنزال الحكم الشرعي على واقعه أو وقائع بذاتها ، وتستمد قيمتها من سعة علم المفتي وسعة ملكاته وطاقاته الذهنية . إلا أن الفتوى وإن أتت بجديد في موضوعها المحدّد تبقى اجتهاداً في مسائل فرعية ، محكوما ً ، في الغالب ، بمنهجية مذهبية محددة ــ وهذا المجهود ، على أهميته ، لا يرقى إلى مستوى التجديد .


           التجديد المطلوب في رأيي هو الذي يتجاوز آراء المذهب التي ينقلها فقيه عن فقيه ، ويتسنسخها مجلد عن مجلد ، وتسافر من حاشية إلى حاشية . التجديد هو الفكر الذي يقفز فوق هذا كله ليعود إلى المنبع الأصلي ، ومنبعنا الأصلي ، كما يعرف كل مسلم ، هو القرآن الكريم والسنة المطهّرة . ومن المفارقات ، إذن ، أن تجديد الفكر الديني لن يتحقق بالركض إلى الأمام ولكن بالعودة إلى ما وراء الوراء  ، وما وراء التقليد المتراكم نفاذاً إلى النبعين الأصليين المطهرين . ولعلنا نتبين هنا ضلال الذين يتصورون أن يوسعنا اقتباس التجديد المنشود من حركة مارتن لوثر ، أو من استعراض تجارب التجديد المختلفة في الأديان المختلفة .

           ظهرت في العقود الأخيرة عشرات الكتب التي تعالج تجديد الفكر الديني . وأكذب إذا قلت إني قرأتها كلها أو قرأت معظمها . ولكني لا أكذب إذا قلت إني ألممت بجملة لا بأس بها . وجدت جهدا ً أدعو الله أن يجزي أصحابه أجرين أو أجرا ًواحدا ًــ ولكني لم أجد التجديد الحقيقي الذي أوجزت ملامحه قبل برهة . حقيقة الأمر أني لم أجد في أي من الكتب المعاصرة تجديدا ًيرقى إلى التجديد قام به مفكر جليل قبل عدة قرون هو العالم العظيم الإمام ابن حزم الأندلسي .


          ينهض تجديد ابن حزم على محاولة جادة حاسمة للتفريق بين ما هو إلهي ، يؤخذ بلا مناقشة ، وبين ما هو بشري ، يؤخذ منه ويترك . هذه التفرقة ، على بساطتها النظرية ، ليست واضحة ، في الواقع الملموس ، لدى الكثيرين . هل يعرف أتباع مذهب ما الفارق بين فتوى مبنية على نص صريح من الكتاب أو السنة وبين فتوى مبنية على قياس أو استحسان ؟ وهل يدرك متلقي الفتوى الفارق بين حكم يُردّ مباشرة إلى القرآن الكريم وبين حكم مبني على سد الذرائع ؟


      يتحدث ابن حزم عن الوحي ، مصدر التشريع الوحيد عنده ،  فيـقول :




" إن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين : وحي متلو ّ مؤلف تأليفا ً معجز               النظام وهو القرآن ، والثاني وحي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو ّ ولكنه مقروء ، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 
ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول "(3). 




ويعلق الشيخ محمد أبو زهرة على منهج ابن حزم فيقول : 


    " يرى ابن حزم أنه لا رأي في الدين ، فليس لأحد أن يجتهد برأيه أو يدعي أن ذلك حكم الله تعالى ، وليس لأحد يتحدّث عن الله غير رسول من عند الله ، ومن قال في الدين برأيه فهو عند ابن حزم مفتر على الله قد كذب عليه . وإذا كان ابن حزم ينفي الاجتهاد  بالرأي فقد سدّ  باب الاستنباط بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع " (4).




ويضيف الشيخ أبو زهرة : 


    " ابن حزم يقرّر أنه لا يسوغ تقليد أحد من الصحابة ولا من غيرهم لا من الأحياء ولا من الأموات ، ويعتبر الأخذ بقول الصحابي من غير حجة من السنة النبوية تقليدا ً غير جائز في دين الله تعالى ، فإنه لا يأخذ إلا بالكتاب والسنة أو الإجماع القائم على نص منهما ،  أو الدليل المشتق من هذه الأمور الثلاثة " (5).




         كان ابن حزم مؤلفا ً موسوعيا ً غزير الإنتاج ، ولكنه كان حاد اللسان ، عنيف المناظرة ، خاض الكثير من الخصوميات وخاضها بالكثير من الاعتداد والقوة . لعل جرأة أبي حزم المتمثلة في إهداره مصادر تشريعية تعتد بها مذاهب عديدة أخرى ، بالإضافة إلى طبعه الحاد ، هي المسؤولة عن بقاء مذهبه شبه مهجور ، مذهب بلا أتباع . وكم يؤلمني ، في يومنا هذا ، أن أرى من الفقهاء من يتحدث عن ابن حزم فلا يرى في منهجه غير أخذه بظاهر النصوص ، ويكاد يقصر تعليقاته على آراء غريبة فرعية لابن حزم ــ وكأنه المجتهد الوحيد الذي نقلت عنه آراء غريبة .


       ومن حسن الحظ أن منهج أبي حزم لقي أصداء عديدة في القرن العشرين الميلادي ، لعل أهمها الصدى الذي نجده عند محمد أسد ، المفكر المعروف الذي ولد يهوديا ً ثم اعتنق الإسلام وروى حكاية إسلامه في كتابه الجميل الطريق إلى مكة ، وترك لنا تراثا ً قيما ً جديرا ً بالتأمل والدراسة أهمه كتابه رسالة القرآن يقول محمد أسد :


          "  إن كثيرا ً من الاستنتاجات الشخصية للفقهاء لا تعدو أن تكون انعكاسات لزمن معين وعقلية معيّنة ؛ ولهذا لا يمكن أن تدعّي أنها أحكام ذات حجّية خالدة .. إن نصوص القرآن والسنة وحدهما ودون غيرهما هي التي تشكل في مجموعها شريعة الإسلام الخالدة " (6).




      ومن هذه القاعدة ينطلق محمد أسد فيقرر " إن الشريعة لا يمكن تغييرها لأنها شريعة إلهية "(7). أما ما لم تنص عليه الشريعة فيعتبره مباحاً يجوز للمسلمين في هذا العصر أن يجتهدوا فيه غير مقيدين بالكم الهائل المتراكـم من استنتاجات الفقهاء وتفسيراتهم. 


      من الضروري هنا أن نوضح أن محمد أسد لا يترك الاجتهاد في الأمور العامة لفقيه أو فقهاء ؛ ولكنه يكله إلى السلطة التشريعية المنتخبة .


      لو أخذت كل المذاهب بهذه التفرقة الصارمة بين ما هو مقدس لا يُمس ( الشريعة ) ، وما هو بشري قابل للأخذ والرّد ( الفقه) لتغير مجرى الفكر الإسلامي وانعدم الركون إلى التقليد ، وسادت روح الاجتهاد وخفت حدة التعصب المذهبي . إلا أن هذه الفكرة لم اتلق حين اطلقت ، ولا تلقى اليوم ، الكثير من القبول . والسبب ، كما سبق أن ألمحت ، بالإضافة إلى السياسة ، يعود إلى التحزّب الذي يجعل أنصام المذهب يرفضون التخلي عن شيء جاء في المذهب .


      إن المقولة المشهورة المنسوبة إلى أبي معروف الكرخي والتي تذهب إلى أن كل نص يخالف ما عليه أصحابه إما منسوخ وإمّا مؤول لا تزال إلى اليوم شعار الكثيرين من أتباع المذاهب . وهكذا تنعكس الصورة فيعرض القرآن الكريم والسنة المطهرة على رأي بشري ، بدلا ً من العكس ، وتلك ــ والله ! ــ قاصمة الظهر . الحق أقول لكم ، إني لا أعلق كبير أمل على أيّ تجديد لا يفرق تفريقا ً حازما ً حاسما ً بين وحي الله عز وجل وبين آراء البشر.


     أنتقل ، الآن ، إلى الموروث التاريخي ، وأعني به ذلك الجزء من التاريخ الذي نحمله في أنفسنا ، بالإضافة إلى ذلك الجزء الذي نقرأه في كتب التاريخ . الصلة بين الجزأين وثيقة جدا ً . نحن ، إلى حد كبير ، من صنع تاريخنا ، وتاريخنا يتشكل ، إلى حد كبير ، من كيفية تعاملنا معه . تذهب المقولة الشهيرة : إن الذين لا يتعلمون من التاريخ يحكم عليهم بإعادته ، وهي مقولة فيها قدر من الصواب . الخطوة الأولى في مراجعة الموروث التاريخي إذن هي أن نبدأ بأنفسنا فنتصفح ما تركته أجيال متعاقبة من التجارب فيها . إن التاريخ المليء بالقهر لا يمكن أن ينتج جيلا ً يعشق الحرية ، والتاريخ المطرّز بالاستبداد يصنع نفوسا ً طبعت على حب الاستبداد . والخطوة الثانية هي أن نعود إلى تاريخنا لنقرأه بعيون مفتوحة وقلوب مفتوحة . قلت في موضع آخر :

              يجب أن ندرس تاريخنا من جديد ونحلله بموضوعية لندرك أنه لم يكن سجلا ً من الفتوحات الرائعة والانتصارات المجيد فحسب ، كما نعلّم طلاّبنا في المدارس ، بل تضمن ، بالإضافة إلى صفحاته المضيئة العديدة ، صفحات مظلمة تضمنت إهداراً لآدمية الإنسان المسلم وسحقا ً لكرامته . في تاريخنا كتب أحرقت ، وعلماء جلدوا ، ومفكرون صلبوا لأن أصحاب الموقف لم يتفقوا ولو في جزئية صغيرة مع تفكير السلطة الحاكمة. ( 8 ) 




         ويكفي للتذكير بالصفحات السوداء من تاريخنا والتخويف من تكرارها أن أشير إلى موسوعة العذاب ، وهي مؤلف من سبعة مجلدات ، وضعه الباحث العراقي عبود الشالجي(9) ووصف فيه من صنوف التعذيب المرعبة عبر تاريخنا كله ما يجعل جلد القارئ يقشعرّ ، وجبينه يتصبب عرقا ً خجلا ً مهانة.


         ألحظ ، ولعلكـم تلحظون معي ، أن تاريخنا المكتوب ، في جملته ، سرد يكاد يخلو نهائيا ً من التحليل ، كما أنه في أغلبه تاريخ حكام أفراد . تقدّم لنا كتب التاريخ الوقائع وكأنها حدثت بتلقائية لا دور فيها للعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وكأن البطل الأول والأخير ، أو الشرير الأول والأخير ، هو الحاكم الذي دارت الأحداث في عهده . لقد ارتبط تاريخنا بالأفراد ارتباطا ً وثيقا ً دفع بعض الباحثين الغربيين إلى القول إن تاريخ الأمة العربية لا يعدو أن يكون تاريخ أفرادها البارزين . وأحسب أن الأوان قد حان لفك هذا الارتباط . نحن نعرف اليوم أن الحدث ، أي حدث ، يولد نتيجة تفاعلات لا تكاد تحصر ، ونسبته إلى فرد تحمل الكثير من التجني على الحقيقة . يجب أن يتزود الباحث بأسلحة العلوم الاجتماعية كلها ، من علم السياسة إلى علم الإنسان إلى الاقتصاد إلى علم النفس ، قبل أن يسمح له بالدخول إلى صفحات التاريخ . آن أن يتقاعد الراوية ، الذي تخصص في بطولات عنتر وشرور أعدائه ، وأن يجئ المحلل الذي يعرف الكثير عن العقل الباطن وعوامل الإنتاج والصراع الديالكتيكي . إنني ازعم ، وأشك أن أؤكد ، إن قراءة تاريخنا بهذه النظرة العلمية الموضوعية ستزيح عن أرواحنا الكثير من العقد وتقودنا إلى المزيد من التسامح .




        ويسير بنا الموروث التاريخي إلى الموروث الاجتماعي . ــ ألحظ إن القبيلة لعبت ، ولا تزال تلعب ، دورا ً كبيرا ً في تركبيتنا الاجتماعية . وهنا لا بدّ من التحذير من الوقوع في مزلقين كثيرا ً ما يقع في أحدهما من يتعرض بالبحث للقبيلة : مزلق تمجيد القيم القبلية وتقديسها ، ومزلق الانتقاص منها وازدرائها . القبيلة ، في حقيقة أمرها ، رابطة يمكن أن تقوى فتطغى على كل رابطة ، ويمكن أن تضمر فتصبح مجرد عاطفة رمزية ، والقبيلة في تاريخنا ، وفي كل تاريخ ، تقوى عندما تصبح مصدر الأمن والعيش والعدل لأبنائها ، وتضعف عندما تتمكن السلطة الحاكمة من توفير الأمن والعيش والعدل لكل المواطنين . التعامل مع القبيلة وقيمها ، إذن ، لا يتم عبر التمجيد أو الانتقاص ولكن عبر إدراك واع للحاجات . إن الانتماء القبلي الطاغي يتعارض مع الانتماء الوطني الحقيقي ، ولكن الانتماء الوطني لا يتحقق بالشعارات أو بالقمع ، بل يتحقق عندما يعامل الوطن كل مواطن ، كل مواطن بلا استثناء ، كما تعامل القبيلة كل فرد فيها . التحدي الذي يواجهنا ، والحالة هذه ، لا يتمثل في محاربة الولاءات القبلية ، ولكنه يتمثل في إيجاد ولاء كبير عميق للوطن يمكن أن يتعايش معه ولا يطغى عليه ، ولاء قبلي مشروع .


           عندما ننتقل إلى الموروث السياسي نلحظ مع المفكر العربي المعروف محمد جابر الأنصاري أن الممارسة السياسية العربية وئدت في وقت مبكر على يد النخب الرعوية غير العربية التي استولت على الحكم في الخلافة في بغداد ، ثم انتشرت في كل مكان تحكم قبضتها على محكومين لا حول لهم ولا قوة . كانت هذه النخب عسكرية فظة شبه أمية ، تقتصر أولويّاتها على جمع المال وجمع السلطة ، ولا تحتوي أجندتها على تعددية من أي نوع. ومع المفكر نفسه نذهب إلى أن الممارسة السياسية السليمة لا تتأتي اليوم إلا في ظل الدولة القطرية ، الدولة التي يجب حمايتها من التحلل أو الذوبان في كيانات أخرى ، حقيقية أو وهميّة . تشير كل التجارب الماضية إلى أن الدولة القطرية هي أفضل الخيارات السياسية المتوفرة ــ وفي داخل هذه الدولة يجب أن تتطور الممارسة السياسية متناغمة لا مع ضغوط من الخارج بل مع إيقاع الجمهور وتوقعاته ، قلت في موضع آخر :


      
               إن الخيار ليس ، كما يتصور أعداء التغيير ، بين الديمقراطية الغربية التي لا نستطيع نقلها حتى لو شئنا وبين " الخصوصية الوطنية " المتسمة بالجمود والهمود . بوسعنا إذا انعقد العزم على تطوير تعددية حقيقة بمؤسسات فاعلة تعكس رأي الشعب دون أن نفقد ذرة واحدة من أصالتنا العربية والإسلامية . إلا أن التعددية لا يمكن أن تنشأ في فراغ . هناك مقومات أساسية لا يمكن إذا انعدمت أن يسود أي نظام سوى النظام القمعي . من هذه المستلزمات وجود أغلبية متعلمة ميسورة الحال ، ومنها وجود مجتمع مدني نشط له مؤسساته الحرّة الفاعلة . ومنها أن تذوب الولاءات الضيقة ، بمختلف أنواعها ، في ولاء أعمق للوطن . ومنها وجود قضاء مستقل . ومنها وضع إجراءات تحمي المواطن من الاعتقال التعسفي . ومنها ازدهار تقاليد من التسامح وقبول الرأي الآخر . هذا ، كله ، يستحيل تحقيقه بين يوم وليلة ، ويتطلب إصلاحات تدريجية متلاحقة تحتاج إلى مدى زمني معقول ( لا أتحدث عن قرن أو قرنين : أقصد عقدا ً أو عقدين ). (9)












ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع 
(1) من محاضرة ألقيت في مسقط في 1426/11/25 هـ  - 2005/12/27 م
(2) ابن تيمية ، الفتاوي ، المجلد العشرون ص 203 - 204
(3) ابن حزم الإحكام في أصول الأحكام ( بيروت : منشورات دار الأفاق الجديدة . د . ت ) الجزء الأول ص 79 .
(4) محمد أبو زهرة ، ابن حزم حياته وعصره وآراؤه وفقهه ( القاهرة : دار الفكر العربي ، 1977 ) ص 421 
(5) المرجع السابق ص 413
(6) MOHAMAD ASSAD , THE PRINCIPLES OF STATE AND GOVERNMENT IN ISLAM , GIBRALTER : DAR ALANDALUS , 1982P.B
(7) المرجع السابق ، ص10
(8) غازي عبدالرحمن القصيبي ، الغزو الثقافي ومقالات أخرى ( بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1991م) ص51
(9) عبود الشالجي ، موسوعة العذاب ( بيروت : الدار العربية للموسوعات د.ت ) . 






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق